الشروط الواجب توفرها في المحكم

إن المحكمين أشخاص عهد إليهم أطراف الخصومة الفصل في النزاع ثقة في قدرتهم وسلوكهم القويم، لذا فإن المحكم الجيد يجب أن يتمتع بشخصية قيادية قادرة على حل المشكلات واختيار القرارات السليمة؛ وفي ظل المساحة الواسعة للأطراف في اختيار المحكمين وخشية أن يساء استعمالها فقد اتجهت معظم النظم القانونية إلى وضع بعض الشروط التي يجب توافرها في المحكم. ويمكن تقسيم الشروط إلى شروط وجوبية وشروط اتفاقية، أما الشروط الوجوبية فهي شروط يجب توفرها في المحكم والإخلال بتلك الشروط يؤدي إلى بطلان التحكيم.
وباستقراء نظام التحكيم السعودي والكتب التي تحدثت عن التحكيم فيمكن حصرها في خمسة شروط وهي: تمتع المحكم بالأهلية وحيدة واستقلال المحكم وحسن سيرة وسلوك المحكم وتأهيله العلمي[1] وقبول المحكم للتعيين[2]
وسنعرض هذه الشروط الخمسة الوجوبية:
أولًأ: أن يكون كامل الأهلية: من المسلم به كون المحكم شخصًا طبيعيًا وألا يصيبه عارض من عوارض الاهلية سواءًا كان اختيار المحكم بواسطة أطراف التحكيم أو المحكمة المختصة بتعيين المحكم؛ وتعد الأهلية من النظام العام وبالتالي لا يجوز الإخلال بها ولو بالاتفاق.
ثانيًا: أن يكون حسن السيرة والسلوك: فلا يكون محكمًا من سبق الحكم عليه في جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو حكم عليه بإشهار إفلاسه ما لم يرد إليه اعتباره؛ وتكمن أهمية مسألة حسن سير وسلوك المحكم ارتباطهما بالعدالة وفي ظل عدم وجود قواعد ثابتة للنظام الدولي الخاص، فإن فكرة ضرورة توافر حسن السيرة والسلوك في المحكم يعد من أهم وسائل تحقيق العدالة.
ثالثًا: التأهيل العلمي: فقد نص نظام التحكيم على شرط “أن يكون المحكم حاصلًا على الأقل على شهادة جامعية في العلوم الشرعية أو النظامية، وإذا كانت هيئة التحكيم مكونة من أكثر من محكم فيكتفى بتوفر هذا الشرط في رئيسها”[4]، فالتكوين العلمي المتميز للمحكم أمر ذو ضرورة بالغة يؤدي إلى ترجيح الثقة في سلامة إجراءات دعوى التحكيم .
رابعًا: استقلال المحكم وحياده: يلزم لكي يقوم المحكم بمهمته القضائية أن يكون محايدًا ومستقلًا إذ أن الحيدة والاستقلال تعتبر ضمانة من الضمانات الأساسية في التقاضي فلا يصدر حكمه عن غرض أو هوى وقد نص نظام التحكيم أنه “يجب ألا يكون للمحكم مصلحة في النزاع -منذ تعيينه وطوال إجراءات التحكيم- وأن يصرح- كتابة- لطرفي التحكيم بكل الظروف التي من شانها أن تثير شكوكًا لها ما يسوغها حول حياده واستقلاله إلا إذا كان قد سبق له أن أحاطهما علمًا بها”[5] فالمحكم كالقاضي يمسك ميزان العدالة في منصة التحكيم ويحقق المساواة بين الأطراف المتنازعة وقد أكد نظام التحكيم ذلك فقد نص على ” يكون المحكم ممنوعًا من النظر في الدعوى وسماعها- ولو لم يطلب ذلك أحد طرفي التحكيم- في الحالات نفسها التي يمنع فيها القاضي”[6]
خامسًا: قبول المحكم للتعيين: فلا يمكن أن يجبر أحد على التحكيم إلا إذا قبل المحكم هذه المهمة، فإن حساب ميعاد التحكيم لا يبدأ إلا منذ قبول المحكم أو قبول آخر المحكمين صراحة أو ضمنًا
أما الشروط الاتفاقية فهي قائمة على اتفاق الأطراف حيث يجوز للأطراف الاتفاق على شروط معينة يلتزمون بها وهو ما نص عليه نظام التحكيم ” تراعي المحكمة المختصة في المحكم الذي تختاره الشروط التي نص عليها اتفاق الأطراف ..”[7] فيمكن للأطراف أن يتفقوا على جنسية المحكم أو ديانته أو أن يكون ذو خبرة معينة أو أن يتم اختيار المحكم من قائمة يعدها الأطراف أو بواسطة مركز معين وهكذا.
فالشروط الوجوبية شرعت من أجل توفير الحد الأدنى من الضمانات لتحقيق العدالة لمن يلجأ للتحكيم وأما بالنسبة للشروط الاتفاقية فقد شرعت ليتخير الأطراف الشروط التي تتناسب مع تحقيق مصالحهم واحترامًا لإرداة الأطراف المعبر عنها في اتفاق التحكيم.

[1] طارق الغنام، دور المحكم في نظام التحكيم السعودي صـ60
[2] حسين الحسين، التحكيم التجاري صـ 224
[3] انظر المادة (14) والمادة (16) من نظام التحكيم السعودي
[4] انظر المادة (14) من نظام التحكيم السعودي
[5]  انظر المادة (16/1) من نظام التحكيم السعودي
[6]  انظر المادة (16/2) من نظام التحكيم السعودي
[7]  انظر المادة (15/3) من نظام التحكيم السعودي

 

الأصل براءة الذمة

من القواعد المهمة والأصول العظيمة التي اهتمت بها الشريعة قاعدة الأصل براءة الذمة؛ لإنها تهدف إلى حفظ الحقوق من الاعتداء وصون الحرية الشخصية للأفراد، فقواعد الشريعة تتشوف دائما لتحقيق العدالة وإرساء الحقوق وفق موازيين الإنصاف وقيم العدل
القواعد الشرعية. القواعد الشرعية هي أصول جامعة ومبادئ راسخة يرتكز عليها القضاء لتحصيل مصالح العباد وحفظ حقوقهم؛ فالقواعد تضبط الأمور المنتشرة المتعددة وتنظمها في سلك واحد، وتمكن غير المتخصصين في علوم الشريعة كرجال القانون، من الإطلاع على الفقه، بروحه ومضمونه بأيسر طريقة
مصدر قاعدة الأصل براءة الذمة. هذه القاعدة اهتمت بها كتب أصول الفقه الإسلامي وأدرجتها تحت باب الاستصحاب، وهو استصحاب الأصل، وسأضرب مثالًا يشرح ذلك، فالأصل في المياه الطهارة سواء كات مياه أمطار أو بحار أو غيره،، ولا يعدل عن ذلك بالشك وهنا استصحبنا الأصل وهي طهارة المياه؛ وهذه القاعدة أصل ومقصد عظيم لتظافر الأدلة عليها التي تستصحب البراءة الأصلية للإنسان والتي لا يعدل عنها إلا بدليل قطعي فالحكم الثابت بالدليل يبقى ثابتًا ما لم يرد دليل يرفعه فلا يزيله احتمالات ليس لها ما يبررها
وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر” حديث حسن
معنى القاعدة. وهذا الحديث يؤكد وبشكل واضح وصريح أن الأصل براءة الذمة وانشغالها عارض يترتب عليه عبء الإثبات على من يدعي عكس ذلك؛ فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين، مقصدي هنا هو توجيه الضوء لمبدأ عظيم قررته الشريعة بوصفه أحد الدعامات الرئيسية لتحقيق العدالة وضمان الحقوق للمجتمع بشكل عام وللمتقاضين بشكل أخص؛ فالأصل البراءة الأصلية والمقصود بالبراءة نفي الالتزام والمسؤولية عن الذمة
تعزيز مبدأ براءة الذمة كمعنى شمولي ومقصد شرعي يندرج ضمن السعي لتنمية وعي المجتمع بالنظام القضائي والتشريعات القضائية وكيفية صدورها وحرص النظام القضائي على دراسة الأدلة وفحص البينات قبل تكييف الواقعة وتنزيل الحكم وعدم رمي التهم جزافاً حتى تتشكل الصورة النهائية للحكم عليها
وتعزيز هذه المبادئ القضائية ليست مسؤولية الجهاز القضائي فحسب؛ بل هي مسؤولية المجتمع وخاصة المهتمين بالمجال الحقوقي، من أجل الوصول إلى أعلى مستويات العدالة التي ينشدها الجميع

1 انظر كتاب المدخل لدراسة التشريع الإسلامي للدكتور عبدالرحمن الصابوني 1/269
2 رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين
3 انظر كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي صـ61
4 انظر كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام لابن للعز ابن عبدالسلام 2/26
عبدالله التركي